رمضان والمجذومون (مقال)
رمضان والمجذومون..
كيف يأتي رمضان على من يصارعون ذواتهم؟
عدٌ تنازلي سوف يطالعك على كافة شبكات التواصل الاجتماعي عبر الأثير قبل الشهر الفضيل، يبدأ عادةً قبله بثلاثة أشهر وبضع أيام، أو على وجه الدقة قبله بـ 100 يوم؛ ليُعطي بعدًا رومانسيًا دراميًا. يتحول الناس لتقويمٍ حيّ، يتكفّل جُلهم بتذكيرنا نهارًا تلو نهار وساعة بعد ساعة بالأيام المتبقية ليبدأ رمضان، يصحبُ ذلك الكثير من الأدعية.. التمنيات.. مبالغات التعبير وحكايا –حقيقة وزائفة- عن ذكرياتهم مع الشهر الكريم.
جميل.. انتظار الشهر الذي عُقد بقدومه الخير. جميل، منطقي وروحاني، يذّكرني بقراءاتي القديمة أيام الجامعة عن كيفية تحضّر الصحابة لهذا الشهر قبل قدومه بنصف عام، وكل الكتب التي قرأتها في تلك الحقبة الهادئة المتدنية الراضية –ظاهريًا كما سأكتشف لاحقًا-، لأتحضر لاستقبال الشهر، ومحاولة اللحاق بركب الصالحين الذي لم أرني حينها أهلًا له، وارتضيت أن أسألهم الصحبة والدعاء لذاتي الفقيرة.
ولكن السؤال: كيف يستقبل من يصارع ذاته هذا الزخم؟
كثيرون منا يصارعون ما لا طاقة لهم به، من اكتئاب وقلق، أمراض نفسية ومشاكل صحية مزمنة وأفكار تودي بالعقل نحو الجنون. تمتليء جعبتنا بمشاعر متضاربة كلما دنت غُرة رمضان: وحدة.. ضيق.. ضعف.. أمل.. ضغط.. دونية.. ترقب.. رهبة.. إلخ.
نعيش طوال الوقت نصارع ثم يأتي سباق رمضان فيشعرنا كم نحن متأخرون! سنظل هناك في آخر صف من المدرجات ننظر بحسرةٍ وصمت.. ويسأل كل منا ذاته في أسى: لماذا أنا بعيد عن هؤلاء؟ لماذا لا أشعر بجمال الشهر وروحانيته؟ لماذا لست بينهم هناك في المضمار؟ هل أنا الشقي المعذب بزوال السكينة وثقل الطاعة؟ لماذا لا يسعد قلبي بمظاهر البهجة والسرور البسيطة على الأقل؟
أتذكر هنا طرفة عن أعمى وأصم وكسيح.. فلنتخيلهم في هذا السياق، يقول الأعمى: أرى زينة رمضان وأنواره، ويؤكد الأصم: أسمع تواشيح الفجر وتلاوة التروايح، فيصرخ بهم الكسيح: هلموا بنا نلحق بهم!
سيتهمني البعض بالتقصير والعصيان، سيرون محاولتي لوصف ما أمرُّ وغيري به من مشاعر وأفكار ثقال تهربًا وتقاسعًا؛ فالناس تحب إصدار الأحكام وجلد المخطيء -في نظرهم- وبالأخص حين يكون الدين هو موضوع الجدل.
لكن الحقيقة الأصعب علينا لا عليهم، هو أننا كنا نستشعره قديمًا ونعد له العدة ونجاهد كيلا تنفلت أيامه من بين أيدينا كحبات الساعة الرملية.
كنا نصوم بنيات عدة ونقوم الليل ونتلو القرآن وندعو باطمئنان كأنما تحققت دعواتنا قبلًا، ونحب الشهر ونفحاته.
ثم يتضخم صراعنا مع الذات وتشافيها والسعي نحو سكونها، فتتفلت الألجمة من بين أيدينا كبعير شاردة، لجام العمل، العائلة، التخطيط للمستقبل، الدين والإله.
نقف مكتوفي الأيدي نشاهدها تبتعد، نحاول اللحاق بها فتنزلق أقدامنا في رمال الفكر المضطرب والصراعات النفسية.
نحن كثر يصعُب الشعور بنا، حتى أننا نخاف الاعتراف بما ينغص علينا فكرنا ويقض مضاجعنا لبعضنا البعض. قد يتفهم الناس كآبتك، خلافاتك مع أهلك، كونك تحتاج لرعاية نفسية لتصبح أفضل حالًا، لكن الدين أو الاعتقاد الروحاني لا يكسب ذات التفهم، عوضًا عن أنك متهم دائمًا بالتقصير في حق الرب ما دمت تعاني!
لا أحد بإمكانه مهما حاول أن يتخيل المعركة الدائرة بينك وبينك، إحساسك بالذنب لاستثقال ما يشعر غيرك بالخفة، محاولاتك العصية لتكون في تناغم مع الجمع من حولك، رحلتك الطويلة المتشعبة في فهم ذاتك ومداواتها وتعليمها كل شيءٍ من جديد من وراء نظارة المعاناة الرمادية، سعيك في طريق وعرٍ متخم بالحفر والألغام حتى تصل إلى مستراحك المرتجى. ثم يأتي العيد بلا فرحٍ ولا ابتهاج، تود لو يمر كيومٍ عادي رتيب، عوضًا عن شعورك بالضيق والاختلاف تسائل نفسك: "ويحك ما بك؟!"
ما شكل الصراع؟
أحيانًا يكون الصراع فكريًا داخليًا.. شخصٌ متدين ينغمس في بحار البحث والتنقيب، فتتلقفه الأسئلة وتلقيه في دوامات الحيرة، تتكاثر الأسئلة دون مجيب، دون معلم فطن ودون أن يستطيع تجاوزها؛ فكما يقول أبو الطيب المتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".
وأحيانًا أخرى يكون الصراع أضخم في وجود مشكلة نفسية معقدة، تجعل الأفكار أشد شراسة والمحاولات أقل جدوى.
شابٌ مر بتجربة اعتقال لم تلتئم جراحها بعد، فتاة مضطرة لمشاركة الطاولة طوال شهر كامل مع والدها الذي سبب لها إيذاءًا نفسيًا أو جسديًا، زوجة معنَّفة تقدم الطعام يوميًا لمن يكيلها الويل، ورجلٌ حاول الانتحار مرة لفقدانه الرغبة في الحياة ونجى يتأمله الجيران في كل صلاة جماعة كأنه مجذوم.
لماذا مجذوم؟
حسنًا لأن هذا ما نشعر به، كأننا في بوحنا عما يعتمل في صدورنا من تخبط وغربة كالمجذوم -والقصد من اللفظ هنا هو استعمال العامة له كمصطلح يوحي بالنبذ والقذارة الأخلاقية لا المرض- الذين أكتشف من حوله إصابته فقرروا إرساله إلى مستعمرة الجذام، نفورًا من معانته واتقاء إصابتهم بالعدوى، ليبقى هناك مع أشباهه من المشوهين فكريًا ونفسيًا، أولائك الذين يجدون أنفسهم كموتى على قيد الحياة وكغرباء لا طوبى لهم، بل خوف وقلق ونبذ شديد.
سألت صديقي يومًا: "حسنٌ ها أنذا أحاول واتعثر، أدنو وأبتعد، أستقيم على الصراط يومًا وأحيد أيامًا.. فماذا يحدث إذا وافتني المنيةٌ ولم أصل؟" فرد دون طول تفكير: "ستموتين على الطريق".
ربما عيناي قصيرتا النظر فأرى "أبواب بيتك هذا الليل موصدة" ولا طاقة لي على طرقها، وقلبي يكاد يخرج من صدري خشية أن لا ينتهي تخبطي وتيهي؛ ولكن شيئًا خفيًا تحت طيات من ظلمات بعضها فوق بعض يأمل أن استجمع قواي يومًا لطرق أبوابك دون ملل، وربما حينها قد أحظى بوصلك ونورك فتنفتح أمامي بطرقة خفيفة دون حول مني ولا قوة.. أنا وكل مجذوم.
سلمى سليمان
لطيف اخيتي
ردحذفشكرًا لك سمية.
حذف