الحب كاشف.. أو ماذا يحدث حين تحب جسدك؟


إذا أخبرني أحدهم منذ سنوات أن حبي لنفسي وجسدي سيفتح باب الفهم حيال كل ما يلاقيه من تعب وآلام، ويجعله يكشف عن حقيقة ما يجري معه بوضوح، لضحكت ساخرة من قوله هذا.
لكن هذا ما حدث، على الأقل بالنسبة لي.


حين كنا .. في الكتاتيب صغارا
حقنونا .. بسخيف القول ليلا ونهارا
: درسونا
“ركب المرأة عورة”
“ضحكة المرأة عورة”
“صوتها – من خلف ثقب الباب – عورة”


تكبر الفتيات في عالمنا العربي بالخوف لا الحب، الخوف من الوالدين، من الرجال والغرباء والمجتمع الممتلئ بالرجال الغرباء. 
نكبر ويصب الكل في مسامعنا كيف يجب أن نتحدث، كيف نتكلم باستحياء، كيف نكون خجولات ورقيقات ونتعامل بمبادئ الإتكيت، لكن لا تظهر أنوثتنا وتبدو وجوهنا في حالة من الجمود بلا ملامح سعادة ولا حزن، أن نتعامل بحزم ونضع الحدود، نتجمل بلا إظهار، و نظهر بلا تجميل.
الكثير من الشيء وضده في آن واحد، وعليك كفتاة في العاشرة إيجاد طريقة لتضمي كل هذه المتضادات في كيان واحد متسق، يرضي كل أفراد أسرتك ومحيطك ليرفعوا أصابع الاتهام عنك، عن كونك فتاة، عار يجب ستره حتى تتلقفه يد الزوج في المستقبل ليصبح مشكلته.

ومع عالم الدعاية والإعلام، يزداد الطين بلة.. إعلانات لثياب غريبة بمقاسات محددة تضمن قبلوك الاجتماعي، وفيديوهات للكثير من "البلوجرز" يرشحن مستحضرات تجميل وعناية بالبشرة بأثمان باهظة لتحصلي على وجه مثالي، وشعر لامع صحي ووجه يستحق الحب بالتبعية.


وأنا ككل الفتيات، كبرت بالخوف والتعليقات الدائمة على شكلي وحجم أنفي، والكثير من "تخنتي..خسيتي.. وشك بهتان.. اللبس مش لايق.."، كبرت وأنا أخاف السير في الطريق حتى أمام بيتنا خشية التعرض لأي مضايقة، الطريق للمدرسة والجامعة يصبح حالة من التيقظ لكل شاردة وورادة لكيلا يتعرض لي أحدهم، والكثير من التخفي تحت طبقات بعضها فوق بعض من عيون العالم المفتوحة علي، المتربصة لزلاتي.


ثم نستيقظ في أحد الأيام لنجد أنفسنا حبيسات لأجساد لا نعرفها، نخافها ونكره ندوبها وطياتها التي تعلمنا طوال حياتنا أنها غير مثالية، نعيش في أجسادنا عقودا كأنها ليست لنا، كأنه منزل مستأجر سنتركه خلفنا يومًا، لذا لا نحبه ولا ننتمي إليه ولا نجعله يشبهنا لأنه ليس لنا في النهاية.


منذ بضع سنوات، بدأت رحلة التعافي الذاتي، مع نفسي وأفكاري وصدمات طفولتي. رحلة طويلة ببداية محددة وبلا نهاية، لأن التعافي والتعلم عن أنفسنا هو رحلة دائمة لا نصل فيها إلى وجهة تمام، رحلة كرحلتنا في هذه الدنيا، تنتهي حين نصبح تحت الثرى.

خلال هذه السنوات، تعلمت كيف أحب نفسي وروحي، كيف أقول أني جميلة دون الاعتذار للعالم عن شعوري بأني كذلك، كيف أخلع دروعي النفسية الصلدة شيئًا فشيئًا لتظهر ذاتي الحقيقية بعد سنوات من التخفي، لكن شيئًا ما ظل ناقصًا.

كنت أحب وجودي كروح وشخص لكني لم أحب جسدي، الحب يحتاج في الحقيقة إلى وجود علاقة قائمة لينبت ويزدهر، وأنا لا علاقة بيني وبين هذا الجسد الذي يحمل قلبي وأفكاري واضطراباتي وأحلامي، هذا البيت الذي عشت دون محاولة اكتشاف تفاصيله، وهنا بدأت القصة.


ثم منذ عام تقريباً بدأت التعرف على جسدي، علمتني الجائحة التي عزلتنا عن العالم فوق عزلتنا الذاتية واغترابنا.. عزلات بعضها فوق بعض، أن لا بيت لي أهم من جسدي، لا شيء يعلو فوق الاهتمام به، بصيانته، بالإتلاف معه والعناية بكل ركن فيه، وري ما ينبت فيه من أخضر وعافية..

أنظر إلى يدي وأحصي الشامات، أحاول تقبل انتفاخ بطني بسبب مشكلتي الصحية، انظر لآثار الجراح الصغيرة والحروق في أصابعي من تجاربي الفنية ولسعات السهو في المطبخ وأشكر جلدي على تحملها، والأهم أني قررت العودة لممارسة الرياضة وتحديث نظامي الغذائي مرة أخرى لأساعد جسدي في التغلب على مشكلته الصحية.

وحين أصبت بكوڤيد مع كل الاحتياطات والحذر وجرعات اللقاح، وانعزلت معه وحده دون العالم، رد لي الجميل فتعب تعبًا خفيفًا وساعدني فتعافينا سريعًا، دون ضرر جم بلطف الله ثم مقاومته.
أخبرته أني سأحترم قصر نفسه وأتوقف عن ممارسة الرياضة لبعض الوقت ثم رويدًا رويدًا نبدأ بتؤدة، وأن أواصل احترامه كلما صعبت عليه حركة كنا قد أتقناها.

هنا حدث ما بدأت به كلامي، قرر جسدي مكافاتي وكشف عن خباياه، وأخبرني بوضوح بعد أكثر من عشرة أعوام مضت على مشاكله الصحية، ماذا يحدث بالضبط.
أو هكذا أؤمن على الأقل.. 

مع الرياضة وتعديل نظامي الغذائي للمرة التي لا أعلم كم من كثرة المحاولات، لم يتحسن الوضع وأصبح الطعام والشراب معضلة، عضلات بطني لا تلين مع التمرين وأفقد قدرتي على إتمامه.
قررت زيارة الطبيب، جمعت كل تحاليل خلال ٥ سنوات وجمعت كل التشخيصات التي سمعت في عقلي، وكل ملاحظاتي عن وضعي وذهبت..

لم يسمعني الطبيب المشهور ذو الاسم اللامع، ولأني تعلمت أن أحبني وأحترم حدسي، خرجت وأنا عازمة أن لا أعود إليه.
راجعت طبيبًا آخر، بمركز مجهز لإجراء رجحت أني سأحتاجه -نظرًا لخلفيتي الطبية وبحثي خلال سنوات- وبنفس الاستعداد ذهبت، والحمد لله أنصت الطبيب لروايتي الطويلة وتفاصيلها، وراجع كل التحاليل، ثم أجرى كشفه وخلص إلى تشخيصه الذي يراه منطبقًا علي كما يقول الكتاب، وكتب لي وصفة طبية ونصائح للغذاء وتجنب التوتر، أخبرته أني أرغب في عمل إجراء استكشافي، لم ير حاجة له ولكني أصررت فما كان منه إلا طلب تحليل يقرر على إثره حاجتي لهذا الإجراء من عدمه.


ثلاثة أيام مرت حاول جسدي خلالها التماسك والمناورة ثم مع انتصاب أشجار الميلاد واندلاع الألعاب النارية إيذانًا بالعام الجديد خر على عقبيه من اندلاع الألم في كل جنباته. 

الكثير من الألم، زيارة الطواريء التي لم تخفف شيئًا منه، مراجعة طبيب في اختصاص آخر والكثير من الألم المقعد فعلياً عن الحركة.
أسبوعين من العذاب قبل هدوء العاصفة، ودخولي لإجراء استكشافي، ليخبرني الأطباء بعد كل هذا الوقت ما هو تشخيصي بالتحديد، كيف سأتعامل الآن مع حالتي الصحية، وما هي خطة العلاج الجديدة.


 بعد ما بدأنا -جسدي وأنا- رحلة تعافي أخرى بعد معركته الأخيرة، ومع تحسنه رويدًا رويدًا.. ومحاولتنا اليوم للمشي في دفء شمس الشتاء الكاذب، اهتزت قوائمه من محاولة الاستواء واقفًا بقوة كسابقه، ربتت على ركبتيه وأطلت التربيت على اليسرى وهمست: "كل حاجة بتعدي.." بينما تنتهي الأغنية في أذني لتبدأ رشا رزق أخرى وتخبرنا: "ماشيين في طريق محناش عارفين احنا اخترناه ولا اختارنا.. لو مهما يضيق فمافيش فإدينا غير إنا نكمل مشوارنا".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سلمى تكتب- اليوم الرابع والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الحادي والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الثاني والستون