‎في صالون العقاد كان لنا إفطار

يصل نجيب محفوظ في بدلة كحلية مخططة إلى بيت مضيفه محمود عباس العقاد القاطن بمصر الجديدة، في تمام الرابعة والنصف عصر أول أيام رمضان، يتلقاه العقاد بابتسامة واهنة ولكنها صادقة كتجاعيد وجهه التي نحتتها الحكمة والزمن، "جئت في موعدك بالثانية.. هذا يصدق ما يقال في التزامك ودقة مواعيدك."

"شكرًا" يرد محفوظ: "أعلم أن حياة واحدة لا تكفيك لذا حرصت على أن لا أضيع عليك شيئًا منها."

يقترح صاحب البيت الجلوس في شرفة المنزل، فالجو ربيعي ونسيم الهواء لطيف، فيستمتعان بالمنظر ويزجيان الوقت ريثما يصل أحمد بهجت.

يستهل العقاد أطراف الحديث مع ضيفه الأديب سائلًا: "ماذا تكتب هذه الأيام؟"

يجيبه: "لا أكتب عادة في رمضان، انغمس في روحانياته وأفضل فيه القراءة في السير الدينية والشعر والفلسفة وغيرهما. قراءة الشعر الصوفي في حالة الصيام تجربة فريدة".

"أما أنا فقد ارتبط شهر رمضان الكريم بالكتابة والتأليف أيما ارتباط، بل وبصدور كتبي الجديدة أيضًا." يقول العقاد.. "وأعمل حاليًا على كتاب حول الدين والعقيدة."

سيحكي العقاد كيف اعتاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صيام ثلاثة أيام فقط في الشهر وأن الله لم يكلف عباده بصيام رمضان إلى بعد الهجرة إلى المدينة. أتعرف؟ لم يكن الصيام أوله في الإسلام.. بل يمتد عمره منذ العهد القديم الذي يمتلىء بالإشارات عن صيام الأنبياء وغيرهم من أهل الكتاب، ومنها ما جاء في إنجيل متى في العهد الجديد أن السيد المسيح صام أربعين يومًا في البرية.

وكان من عجائب قوم نينوى أنهم صاموا وأشركوا الأنعام معهم في الصيام، تخيلوا؟ فحين جاء سيدنا يونس بالنذر ودعاهم، آمنوا بالله وتنادوا إلى الصوم واتخذوا الغليظ من الثياب ونودي في المدينة: "عن أمر الملك وعظمائه، لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئًا، لا ترع ولا تشرب وليتغطَ الناس والبهائم بالمسوح.. وليرجعوا عن الظلم."

"من بحثي عن مادة الكتاب عرفت هذا." حتى أنني وصلت للتساؤل: لماذا لا تصوم آلاتنا اليوم كما كانت تصوم البهائم؟"

يضحك محفوظ كاشفًا عن أسنانه مخفيًا عينيه خلف جفنه ونظارته الكبيرة.


*صوت جرس الباب.. ينفتح الباب..

يطل أحمد بهجت لاهثًا ويقول معتذرًا عن التأخير بكلمتين وبس: "آسف جدًا."

"وهذا يا سيدي مضادي في الالتزام، لا يسلم مقالة في وقتها ولا يكون إلا آخر الواصلين." يقول محفوظ مخاطبًا العقاد فيرد الأخير: "ما من أحد يحقق كل ما يريد وكل ما يراد منه، و إن كان أنجح الناجحين."

يسلم بهجت على مضيفه وصاحبه في دعوة الإفطار الكريمة، ويظل واقفًا مطلًا من الشرفة –حيث يجلسون منتظرين مدفع الإفطار- في هذه اللحظات يستذكر نجيب سطح منزله بالجمالية، طفلًا يتوق لصوت الأذان ليسكت عصافير بطنه.

يقطع بهجت حبل ذكرياته مبتهجًا: "آه.. كم أحب بدايات شهر رمضان. حين يأتي أحس بالحب نحو كل الكائنات.. أحس بالرفق والضعف إزاء قصص الحب الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية.. ويملؤني إدراك للعلاقة بين تنهد القمر ومد البحر وجزره، كما أفهم سر الهوى المتبادل بين زهرة عباد الشمس التي تحول وجهها نحو أمها، حتى يجيء الليل فتنكس عنقها وتنام." يضيف: "وأجد الصوم في ذاته نوعًا من الحب، امتثل له العارفون دون فهم لحكمته، مثلما يمتثل المحب لأمر حبيبه ولا يسأل."


*مدفع الإفطار اضرررب.. الله أكبر الله أكبر

يدعو العقاد ضيفيه للطعام وعلى المائدة، يضيف بهجت ممازحًا: "أما اليوم فقد ذهب هذا الزمن الطيب وجاء زمن الصيام الذي نصوم فيه لنسهل عملية ابتلاع الكنافة والقطايف." ويقضم حبة قطايف تلمع عسلًا.

"أما أنا فأرى الصيام اليوم نوعًا من الأدب." يستكمل العقاد الحديث، ويذكر صاحبيه بالقرون التي بدأت بالسخرية، ممن يصومون في سبيل الروح والضمير، أيامًا قد تطول إلى شهر ولا تزيد عليه، فإذا بهم يصومون في سبيل الجسد أو في سبيل المظهر الذي فوق الجسد، شهورًا وسنوات. مضيفًا: "بعض التواضع أيها القرن العشرون، كان كثيرًا عليك أن تعترف بصيام واحد، فها أنت اليوم تعترف بألوان من الصيام وأنواع من العذاب، تارة في سبيل الأجسام وتارة في سبيل الثياب، إنه درس في الأدب وكذلك تكون الدروس في الآداب".

" لا شيء يقرب بين الناس مثل العذاب المشترك." يقول محفوظ،: " سواء أكان بسبب مجاعة أو في سبيل مظهر الجسد." في هذه الأثناء كان ذهن بهجت يسبح بعيدًا، ولم ينتبه إلا حين سمع كلمتي (العذاب المشترك)، "أما الصوم عن الدخان فهو عذابنا المشترك يا أستاذي –يحدث محفوظ- ولولا أني أتذكر أنهار اللبن والعسل المصفى في الجنة كلما رأيت مدخنًا من زملائنا المفطرين، وأكواب الشاي الساخن تصنع ديكورًا جميلًا حولهم.. لما صبرت يومًا عن السجائر."

"ولكنها مزاج خاص عندي، لا أزيد منها في اليوم عن ثلاث، ولا أفهم كيف يدخن البعض علبة أو ربما اثنتين في يوم واحد." يقول محفوظ.

 

*ينهي أدباؤنا إفطارهم وينتقلون إلى الصالون لشرب الشاي.

يرتشف بهجت من فنجانه بضع رشفات دافئة ويقول: "لا يضاهي شرب الشاي في صحبتكما شيئ."، فيكمل نجيب محفوظ: "سوى شربه في حي الحسين. هناك الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال، هناك نهار دائم وحياة متصلة ليلاً ونهاراً.. هناك ابن بنت رسول الله وكفى به جاراً ومجيرًا."

يزيد مضيفهما: "وابن علي كرم الله وجهه، كان عابدًا يشتهي العبادة كأنها رياضة تريحه، وليست أمرا مكتوبًا عليه." ألحقنا المولى بجوارهم في عليين.

 "آمين."

*يغادر الضيفان صالون أديبنا العقاد، يتجه نجيب محفوظ نحو حي الحسين ليكمل ليلته يتحين صعود الشيخ علي محمود مئذنة مسجد الحسين ويأذن؛ بينما يفكر بهجت في حالة الطوارئ التي تعلنها زوجته في أيام رمضان، والسحور الدسم الذي ستتوسل إليه زوجته ليكثر منه، وهو يستذكر ككل مرة كيف كانت النار لا توقد في بيت سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام لشهور وربما اقتصر طعامه على الخبز الجاف المغموس بالزيت.

 

 وفي هذه الأثناء يجلس العقاد إلى مكتبه ويناجي نفسه: "اليوم هو غرة الشهر، ولكن بين طرفة عين وانتباهتها نجدنا في العشر الأواخر. أستطيع سماع ترتيل المصلين الحزين في الريف في أواخر الشهر المعظم، ذلك الترتيل الذي يبكي العيون لا سيما عيون الأطفال من ذوي الحس المرهف والخيال السريع. يهتف الهاتفون بعد كل ترتيل: لا أوحش الله منك يا شهر الحسنات، لا أوحش الله منك يا شهر الخيرات، لا أوحش الله منك يا شهر الرضوان."

 

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سلمى تكتب- اليوم الرابع والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الحادي والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الثاني والستون