وجه ‏كورونا ‏الآخر

"لا يُدرك النعيم بالنعيم." كان هذا تعقيب مديري -في أول عمل لي بعد التخرج- على ردي عندما سألني كيف وجدت إجازتي، وأخبرته بطمع: تمنيت لو كانت أطول من ثلاثة أيام. 
شرح مقصده آنذاك بأنها لو طالت لتمنيت انتهاءها كذلك، وكيف لابد للحياة من فصول متعاقبة مختلفة، ولبحرها من مد لنبصر الجذر، وكذا كل متعة تكتسب معناها بعد الشقاء.

فيروس كوفيد ١٩ المستجد، أو كما يطلق عليه العامة "كورونا"، هو إحدى البلاءات التي تتنزل علينا لتخبرنا بما لا ندركه في السراء، وتعلمنا من كل ضراء. وها نحن على أعتاب موجة ثانية –بدأت تظهر علاماتها أبكر من المتوقع- لهذا الفيروس الذي رغم تطور العلم، إلا أننا في حاجة لبعض الوقت لفهمه والتعامل معه.
تكلمت الكثير من الجهات، الصحف واللقاءات المرئية عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن الآثار السلبية لكورونا، سواء من ناحية الصحة الجسدية، النفسية، تأثيرها على الاقتصاد وحتى علم الاجتماع.
انفجرت أخبار كل القضايا المسكوت عنها، والتي تصاعدت مع فترات الجلوس الطويلة في المنزل، والعمل عن بعد وساعات الحجر الإلزامية. العنف ضد المرأة والطفل مع زيادة معدل البلاغات عنها، فتح ملفات الاغتصاب والتحرش التي لم يبت فيها بعد، الأزمات النفسية والوجودية والكثير من النقاشات الأخرى المهمة –والعقيمة أحيانًا- والتي وجدت في الفراغ والملل خير بيئة لتشتعل وتتطاير شظاياها علينا من الشاشات ليل نهار.

هل سأتكلم عن إحدى هذه النقاط أو بعضها؟ لا، سأتطرق هنا -على غير عادتي- للوجه الآخر من العملة فقط، الوجه الألطف من المحنة، وذلك عبر تجارب حقيقية لعدد من المعارف ببعض التصرف، والروايات على عهدة أصحابها.

الحكاية الأولى: 

تقول سامية: " اعتبر فترة كورونا هي عهد تعرفي الحقيق على والدتي. استشعر الآن الفارق بين علاقتنا قبلها وكيف أصبحت بعدها."
تسترسل: " اكتشفت كم أحب صحبة أمي والجلوس في حضرتها، كما أدركت استمتاعي بالحديث معها لأنني أحب شخصيتها كإنسان وليس لمجرد كونها أمي. نمت بيننا علاقة صداقة بهية، لم تتواجد سابقًا؛ نظرًا لقلة اجتماعنا بسبب شكل نمط الحياة السريع الذي نعيشه في هذا العصر."
أسأل: هل هناك تفصيلة روتينية جميلة زادت خلال فترة الحجر المنزلي تلك؟
"أجل، بالإمكان التأكيد على هذا. أكثر ما أحببت هو طقس جديد لم نعتد عليه من قبل؛ حيث في كل ليلة أو بضع ليال نحضر إبريق الشاي ونفترش شرفة المنزل لنقضي بعض الوقت في جلسة سمر، نتحدث في المواضيع المختلفة ونتعلم عن بعضنا أكثر فأكثر وتتوطد علاقتنا بشكل أجمل. وأنا ممتنة للغاية لطقسنا هذا ولاكتشاف أمي بشكل جديد أقرب للصداقة."

الحكاية الثانية:

تحكي منة: "كنت أقضي إجازتي مع طفليّ في بلدي الأم، ثم اضطررت لقطعها قبل وقف الطيران بثلاثة أيام لأعود لزوجي حيث يعمل في دولة أخرى؛ خوفًا من توقف التنقل بين الدول  أطول من اللازم وعدم قدرتي على العودة إليه فيبقى وحيدًا.
بعد وصولنا قضينا أسبوعي الحجر الإلزامي، ومرا على خير دون أي أعراض على ثلاثتنا والحمد لله. لم يمضِ شهر حتى أُصبت بالتهاب الحلق، كحة مخيفة، مع ارتفاع درجة الحرارة. لم تفلح المضادات الحيوية في علاجي وكان من الصعب السيطرة على حرارتي التي ما تلبث أن تنخفض قليلًا لتعاود الارتفاع ثانية.
مضى أسبوعان دون أي تحسن يذكر، بل زادت الأعراض: جفاف شديد وتسارع في ضربات القلب والحرارة على حالها، اضطروا لإسعافي مجددًا، قضيت ليلة كاملة أخضع للأِشعة والتحاليل، كل شيء يبدو سليمًا، نتائج فحص الكورونا سلبية واتضح أخيرًا أن الجفاف الشديد هو ما عرضني لكل هذا الألم."

تُكمل: " في هذا الوقت كان أحمد –زوجي- خير سندٍ لي، لم يخذلني أبدًا في أي وقت رغم أي خلاف بيننا، ممتنة أنا لنعمة وجوده.
لا أستطيع وصف نظراته وهلعه وهو يأخذني لسيارة الإسعاف، يمسك الولدين ويطمئنني بأنه سيتصرف مع رضيعي الصغير ويخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام.
حين ظهرت نتيجة التحاليل فجرًا أتاني مبتسمًا يحمد الله كثيرًا على سلامتي، وطوال فترة التعافي والنقاهة كان يرعاني خير رعاية في وجود طفلينا المحتاجين للرعاية أيضًا، ويحمل كل طلبات المنزل وواجباته على عاتقه."

تضحك وتقول: "حسنًا.. كان يرعاني وحده في كل مرة أنجبنا طفلنا في الغربة دون مساعدة الأهل، فكرت بأن هذا واجبه وهو مضطر فلا بديل أمامه وليس في الأمر فضل، رغم إشادة الجميع له بحسن التصرف والشهامة. لكن هذه المرة أحسست بدعمه وحبه يغمرانني وكان شعوري مختلفًا."

الحكاية الثالثة:

هشام شاب حديث التخرج، مستقل عن والديه بشكل كبير، يعمل ويتحمل نفقاته الخاصة رغم سعة الحال في بيته دون اضطرار بل رغبة منه.
يصف علاقته بوالديه بالضعف بعض الشيء، بالأخص والده –كحال معظم أبناء جيله-، وحين تضيق به الأيام يطلب مساعدة الأصدقاء وليس الأهل. 
يصف تجربة إصابته بالكورونا وحجره الصحي: "رغم كل الاحتياطات التقطت العدوى، قمت بعمل التحاليل الأولية واختبار الفحص على نفقتي الخاصة وكانت النتيجة إيجابية. احتجت لعزل صحي في إحدى الأماكن الخاصة لمدة أسبوعين. كانت النفقات باهظة، فوجئت بأمي قد دفعت باقي المصاريف المستحقة من جيبها الخاص، يبدو للبعض هذا طبيعيًا ومتوقعًا، بل واجبًا على الأهل؛ لكني لم اعتد على الاهتمام منهم بشؤوني إلى هذا الحد.

لان والدي معي كثيرًا بعد خروجي من الحجر، كان محبًا ودافئًا، وشعرت لأول مرة منذ فترة لا بأس بها بحب أهلي ورعايتهم.
حتى الطبيب الذي لازمني فترة مرضي كان ضحوكًا متفائلًا، على النقيض من زملائه في وقتٍ حرج ثقيلٍ على الجميع كهذا. كنا نبتهج لرؤيته ونتخفف به من ثقل أيامنا."

يكمل مندهشًا بابتسامة لا تفارقه: "فاجأتني حبيبتي ووالدتها بالقدوم لزيارتي –في وجود والديّ-، وأمام الحاضرين باغتتني بعناقٍ للمرة الأولى، لم يعلق والدي ويثر جلبة، بل كان هادئًا وسعيدًا لأن مرضي مر على خير. قضينا يومًا جميلًا وتغدينا جميعًا معًا، ولم أستطع تخيل يومٍ لطيفٍ كهذا في أكثر خيالاتي جموحًا."

حسنًا ما الغاية من هذا؟ ألا نراها نازلة أليمة بل فرصة للمنح من قلب المحن؟
أبدًا. فقط محاولة لرصد الجمال في كل وقت وحين مهما ضاقت الأيام، حتى في أشد أيامنا "عاديةً" علينا التمهل والانتباه للجميل من حولنا –على ضآلته في أعيننا- لنتحمل بشاعة العالم وسرعة أحداثه الجنونية. وأن السنوات العجاف سيتبعها ذات يوم سبع سمان.

تعليقات

  1. انا مشوفتش كتابة منمقة بالشكل الجميل ده قبل كده والتلات حكايات جميلة وبتخلي الانسان يعرف ان فيه جانبين فعلا لكل حاجة .. ابدعتي ⁦❤️⁩

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سلمى تكتب- اليوم الرابع والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الحادي والأربعون

سلمى تكتب- اليوم الثاني والستون