قطعتـا الشطرنج
لا أدري كيف من الممكن أن تجد في عصرنا هذا مثل تلك القطع! تتحرك لا إراديبًا كعرائس ماريونت بإرادة شخص آخر، كأنها هائمة، أو منومة عن الواقع.
القطعة الأولى:
زوجة و أم لطفلين – أحدهما ما زال وليداً – على أعتاب عقدها الثالث من العمر، لا تفقه شيئاً عن الحياة .. أي شيء، تحركها أمها و كأنها ما زالت طفلة في الرابعة (حطي دي هناك)، ( ماتشيليش العيل كدة.. كدهو) وهكذا..
كنت أراقب الموقف بحسرة. صدقني واحد من أسوأ المشاعر هو شعور نفسك بالعجز، حتى إن كانت تلك الفتاة –التي رغم زواجها وأمومتها لم تصبح امرأة بعد– لا تشعر به الآن، فإنها ستشعر به حتماً عما قريب .
بينما تحمل وليدها الباكي وتعطيها أمها التعليمات بين الفينة و الأخرى، تطل من عينيها نظرة حائرة ممزوجةً ببعض الخوف.
فالطفل يبكى من مرضه ومن تلك الأكوام من القماش التي لُف بها في هذا الحر الشديد، و كأن المرض الوحيد الذي يمكنه الفتك بالأطفال هو البرد!
لم تعد أعصابي تتحمل بكاءه و جهل أمه وجدته، اقتربت من أمه قائلة: " ممكن تشيلي البطانية دى.. الجو حر قوي عليه حرام"، فرفعت فقط ذلك الطرف الذي يغطي وجهه وانتظرت من أمها الإذن فقالت لها: "مش مشكلة شيله" ورفعت هي ذلك العبء من على صدري وجسده، لأجد من تحته دثاراً آخر أسمك من الأول
أصيح بها: "شيلي ده كمـان !"
فترد الأم الكبرى: "لأ كفاية كدة.. ليبرد"
دارت في رأسي أشياء كثيرة أقولها لتخفف من بكائه ولكن ذهولي من وجود مثل تلك القطع في لعبة الحياة شلَ تفكيري. كيف لا تشعر هي بحرارة الجو لتعرف إن كان سيتحملها أم لا ؟
كيف لا تحاول تلاوة شيءٍٍ من آيات الله حتى يهدأ؟ تُكبر في أذنه؟ أو تهدهده.. تلاعبه؟ أي شيء.
افعلي شيئاً ..
افعلي شيئاً، أرجوكِ.
القطعة الثانية :
شابة تخرجت من الجامعة، خريجة كلية مرموقة وحاصلة على درجة الماجستير، لكنك لن تصدق أياً من هذا إذا ما رأيتها.
هادئة جدا، تتكلم ببساطة مبالغة، لا حوار، لا تعابير صريحة لملامحها.
أخبرني بربك.. كيف يمكن أن تكون قد جربت أقوى تجربة مجتمعية -الجامعة أعني- و لم تنفتح و لو قليلاً على الحياة؟
ترى كيف هم أصدقاؤها؟ و هل لديها أصدقاء في الأصل؟
كيف تدير شؤون حياتها بعد أن أصبحت مستقلة؟
كيف؟ وكيف؟
أنا لا أكره من هم نقيون كصفحة الماء بل إني أعشقهم، لكن حتى صفحة الماء تأخذ لنفسها شكلاً عندما تهب الرياح، أو يلقى بها أحدهم حصوات صغيرة ليرى رد فعلها، كما أنها تغضب أحيانًا فيرتفع موجها.
لقد أعطتها الجامعة تصريحاً ورقياً غير ملموس بتخرجها، ولكنهم لم يدركوا أنها ما زالت في طور التأهيل النفسي للتخرج للحياة العامة.
هاتان مثالان لقطعتي شطرنج، من بين آلاف القطع التي لا تعرف كيف تتحرر من ذاك المربع الضيق الذي لا تحيد عنه، و السؤال الآن: على من نلقى اللوم؟
على البيت الذي لم يرعَ بواكير النبت فنبت قاصراً؟
أم على المجتمع الذي لم يتدخل طوال فترة إنباته ليطرح ثمراً يانعاً؟
أم على قطع الشطرنج نفسها التى لم تحاول كسر الجدران لترى النور؟
وإن كان كل منهم مذنب بشكل أو بآخر من وجهة نظري.
19-12-2011

تعليقات
إرسال تعليق